رنات إسلامية
علوم الطب عند العرب والمسلمين

علوم الطب عند العرب والمسلمين

◂ تاريخ النشر : 2010/10/13
◂ مرات القراءة : 5341
◂ حجم المقالة : 92359 بايت
صوت للمقالة
أخبر صديقك
◂ التعليقات (0)

تصغير تكبير

علوم الطب عند العرب والمسلمين
كانت للعرب في الجاهلية تجاربهم في الطب، وقد أضافوا إليها ما اكتسبوه من الأمم المجاورة كالفرس والهنود وغيرهم. وقد انتهجوا طريقتين للعلاج أولاهما الكهانة والعرافة، والثانية ما خبروه من عقاقير نباتية إضافة إلى الكي والحجامة والفصد. ومن أبرز أطباء الجاهلية زهير الحِمْيري، وابن حزيم، والحارث بن كلدة صاحب كتاب المحاورة في الطب، والنضر بن الحارث.
أما في الإسلام، فقد بدأ الطب يتأثر رويدًا رويدًا بالطب المحدث بدءًا من العصر الأموي؛ إذ أخذ العلاج يتأثر بالطب الإغريقي، ومن أشهر الأطباء في ذلك الوقت ابن أثال والحكم الدمشقي وعبدالملك الكناني طبيب عمر بن عبدالعزيز. وقد علا شأن الطب في عهد الدولة العباسية بزيادة احتكاك العرب بالأمم الأخرى التي فتحوا بلدانها، واستقدم الخلفاء أفضل الأطباء منهم مثل جورجيس بن بختيشوع وابنه جبريل، ويوحنّا بن ماسويه، وقد اشتهروا بجانب كونهم أطباء بنبوغهم في الترجمة والتأليف. ومع تقدم الزمن ظهر نوع مما يمكن أن نسميه حاليًا بالتخصص في تناول فروع الطب المختلفة كالطب الجراحي، وطب العيون، وطب الأطفال وعلم التشريح، والطب النفسي، وما يتبع ذلك من تطور في طرق العلاج وبناء المستشفيات.
الطب الجراحي. عُرف هذا الفرع من الطب عند الأقدمين من المسلمين بأسماء عدة منها: عمل اليد، وصناعة اليد، وعلاج الحديد لما يدخل فيه من استخدام أدوات تصنع من الحديد. وكان يطلق على من يزاول هذه المهنة اسم جرائحي أو دستكار؛ وهي كلمة فارسية الأصل أخذت من (دستكاري) وهي ترجمة للكلمة العربية التي تعني عمل اليد، أما الطبيب غير الجراح فكان يطلق عليه الطبائعي. وعلى الرغم من أن العرب ذكروا أنهم استقوا علمهم في الجراحة من الهند وبلاد فارس، فإن معظم ما نقلوه كان من اليونان، ومن ثم أبدعوا فيه. وهم أول من فرّق بين الجراحة وغيرها من الموضوعات الطبية، وألزموا الجراح أن يكون ملماً بعلم التشريح ومنافع الأعضاء ومواضعها. وكانوا يؤكدون على حاجة المشتغلين بالطب إلى تشريح الأجسام حية وميتة، وقد شرّحوا القرود كما فعل ابن ماسويه. وكانت معرفة الجراحين المسلمين بكتاب جالينوس المعروف بقاطاجانس في الجراحات والمراهم أمرًا إلزاميًا.
من إبداعات العرب في مجال الجراحة أنهم أول من تمكّن من استخراج حصى المثانة لدى النساء ـ عن طريق المهبل، كما توصلوا إلى وصف دقيق لعملية نزف الدم وقالوا بالعامل الوراثي في ذلك، حيث وجدوا أن بعض الأجسام لديها استعداد للنزف أكثر من غيرها، وتابعوا ذلك في عائلة واحدة لديها هذا الاستعداد وعالجوه بالكي، كما نجحوا في إيقاف الدم النزيف أيضًا بربط الشرايين الكبيرة. وأجروا العمليات الجراحية في كل موضع تقريبًا من البدن؛ وكتبوا عن جراحة الأسنان وتقويمها وجراحة العين. وبرعوا في قدح الماء الأزرق من العين، وكانت هذه العملية أمرًا يسيرًا ونتائجها مضمونة. وذكروا أكثر من ست طرق لاستخراج هذا الماء من العين منها طريقة الشفط. وأجروا العمليات الجراحية في القصبة الهوائية، بل إن الزهراوي (ت 427هـ، 1035م) كان أول من نجح في عملية فتح الحنجرة (القصبة الهوائية) وهي العملية التي أجراها على أحد خدمه. ويقول الرازي في هذا الصدد: "العلاج أن تشق الأغشية الواصلة بين حلق قصبة الرئة ليدخل النَّفَس منه، ويمكن بعد أن يتخلص الإنسان وتسكن تلك الأسباب المانعة من النَّفَس أن يخاط ويرجع إلى حاله، ووجه علاجه أن يمد الرأس إلى الخلف ويمد الجلد ويشق أسفل من الحنجرة ثم يمد بخيطين إلى فوق وأسفل حتى تظهر قصبة الرئة… فإذا سكن الورم، وكان النَّفَس فَلْيُخَطْ ويمسك قليلاً واجعل عليه دروزًا أصغر". كما شرحوا الطريقة التي يستطيع بها المصاب بحَصََر البول، ومن يتعذَّر عليه الإدرار؛ بأن تجرى له جراحة كي تركب له قثطرة. ولعل العرب كانوا من أوائل من أشاروا إلى ما يسمى الآن بجراحة التجميل، وقد بينوا كيفية هذه الجراحة في الشفة والأنف والأذن حينما تطرأ عليها الضخامة من نتوء بارز أو قطع، بحيث تعود هذه الأعضاء إلى حالتها الطبيعية فيرتفع القبح الناشئ عن اللحمة الزائدة. وكما أن الطب الجراحي الحديث لا يلجأ للجراحة إلا إذا كانت هي الحل الأخير، فكذلك كان يفعل الجراحون العرب؛ فما كانت الجراحة عندهم إلا كالشر الذي لابد منه. من ذلك ما نجده في قول الرازي في كتابه محنة الطبيب: "متى رأيت الطبيب يبرئ بالأدوية التي تعالج بعلاج الحديد والعملية الجراحية مثل الخراجات والدبيلات واللوزتين، والخنازير واللهاة الغليظة والسلع والغُدد… فمتى أجاد الطبيب في جميع هذه ولا يحتاج في شيء منها إلى البط والقطع إلا أن تدعو لذلك ضرورة شديدة فاحمد معرفته"، ومن ثم سار المثل: آخر الدواء الكي. كما مارس الجراحون العرب إجراء العمليات الناجحة في البطن، والمجاري البولية، والولادة القيصرية، وتجبير الكسور، والخلع، وعمليات الأنف والأذن والحنجرة، وكانوا يخيطون الجروح خياطة داخلية لا تترك أثرًا ظاهرًا من الجانب الخارجي. وخاطوا مواضع العمليات بخيط واحد باستخدام إبرتين، واستخدموا الأوتار الجلدية وخيوطًا صنعوها من أمعاء القطط وحيوانات أخرى في جراحات الأمعاء ورتق الجروح؛ إذ إن الجسم يمتصها دون أن تلحق به أذىً. وتوصلوا إلى أساليب في تطهير الجروح وطوروا أدوات الجراحة وآلاتها. وكان للجراحين العرب فضل كبير في استخدام عمليتي التخدير والإنعاش على أسس تختلف عما نقلوه من الأمم الأخرى.
أدوات الجراحة. لم يكتف الجراحون العرب بالأدوات التي نقلوها عن الأمم التي سبقتهم، بل اخترعوا آلات جديدة وطوروا تلك التي آلت إليهم من غيرهم. وذكر الكثيرون منهم ـ في ثنايا مؤلفاتهم ـ الأدوات التي استخدمت في عصرهم. ومن هذه المؤلفات، على سبيل المثال، الكتاب الذي صنفه الزهراوي التصريف لمن عجز عن التأليف، وابن القُف أبو الفرج بن يعقوب (ت685هـ، 1286م) عمدة الإصلاح في صناعة الجراح، وأبو الحسن ابن بطلان دعوة الأطباء. وقد اكتشفت بعض الآلات الجراحية أثناء الحفريات التي جرت في موقع الفسطاط التي أسسها عمرو بن العاص سنة 21هـ،641م. ومن هذه الأدوات: أولاً الدَّست وهو يشبه الحقيبة التي تحفظ فيها المباضع. وهذه المباضع أنواع تختلف أشكالها باختلاف الوظائف التي تؤديها؛ فمنها مبضع شق الجلد وهو حاد الطرفين، ويستخدم في حالة فتح مكان في الجلد فوق الشرايين حتى يتمكن الجراح من ربطها. والمبضع المعطوف؛ ويكون أحد طرفيه حادًا ويستخدم لاستئصال اللوزتين. ومن الأدوات التي استخدمت للوزتين المقطع؛ ويشبه المقص بطرفيه المعطوفين، والمباضع الشوكية؛ وهي نوعان:أحدهما يستخدم لبزل البطن في حالة الحبن (الاستسقاء، الورم) ليسمح بإدخال أنبوب دقيق لسحب الماء، وآخر يشق به الناسور. ومبضع فتح الأورام؛ لاستخراج الصديد والقيح المتجمع فيها، وهو ذو نصل مستدير. والمبضع الأملس؛ ويستخدم في قطع الظفرة (لحمة تنبت عند المآقي) من العين. ومبضع الأذن لقطع ما يسقط في الأذن من أجسام غريبة. ومبضع الشق العجاني، ويستخدم لشق العجان (وهو الدُّبر ومافوقه) لاستخراج الحصاة. ومبضع الفصد؛ وهو مبضع عريض ذو نصل يشبه ورقة نبات الآس؛ يستخدم لفصد العروق. والمبضع أملس الحافتين؛ ويستخدم لفتح الأذن التي قد تسد إما من جراء جسم خارجي، أو لزائدة تنبت فيها.

إلى جانب المباضع توجد أدوات أخرى منها الصنانير، وهي أنواع أيضًا، منها البسيط ذو المخطاف الواحد، والمركب ذو المخطافين أو الثلاثة مخاطيف، وأخرى ذات ثلاث شوكات ومقبض واحد لشد الجلد. وصنانير خاصة بخلع بقايا السن المكسورة، طرفها مثلث الشكل فيها بعض الغلظ. أما بقايا جذور الأضراس المكسورة فكانت تخلع بأداة يدخلونها في السنخ فتخلعها. وتسمى هذه الأداة العتلة وهي ذات أشكال وأحجام مختلفة تحددها الوظيفة التي تقوم بها. ومن الأدوات الخاصة بخلع الأسنان والأضراس الكلاليب، ومنها ما يشبه مناقير الطيور تخلع الأضراس من أصولها. ومن الكلاليب ما يستخدم لاستخراج ما ينشب في الحلق من أجسام غريبة، وهي ذات أطراف معقوفة خشنة كالمبرد إذا لامست الجسم قلما تتركه. ومثلها مرْوَد الحلق؛ وهو آلة يستخرج بها الشوك أو العظم وما شابههما من الحلق، وهي ذات طرف معقوف كالصنارة. وآلة كي اللهاة، وتشبه المرود وطرفها كالملعقة تملأ بمادة كاوية توضع على اللهاة.

أما الأنابيب فكانت تتخذ من الريش أو تصنع من الفضة والنحاس أو الحديد. ويعتمد ذلك على نوع الوظيفة التي يؤديها الأنبوب؛ فهناك أنبوب لقطع الثملة؛ وهي الزوائد اللحمية التي تظهر في الوجه والعنق، ويصنع من ريش الأوز أو النسور، ويوضع فوق الثملة ويشد عليها حتى يقطعها من أصلها. وهناك أنبوب هوام الأذن، وهو ذو فوهة ضيقة ونهاية واسعة يدخل إلى الأذن بمقدار يحتمله المريض ويشفط به شفطًا قويًا حتى تخرج الهوام. ومن هذا النوع أنبوب يعبأ بزيت دافئ يدفع ببطء داخل الأذن فتخرج الهوام، ويصنع من الفضة أو النحاس. وهناك نوع من الأنابيب يُبرى على هيئة القلم يصنع من الفضة أو النحاس به ثلاثة ثقوب: اثنان منها على جانب واحد تستخدم لبزل الماء في الحبن أو جذبه. وهناك نوعان من الجفت واحد لاستخراج العظام المكسورة من الفك، وآخر صغير دقيق يستخدم في استخراج الأجسام الدقيقة من الأذن. ومن الأدوات التي استخدمت للأذن أيضًا المجرفة؛ وهي آلة كالمجرد (المكشط) لرفع الأجسام الغريبة منها. كما استخدموا القثاطر لتسهيل خروج البول من المثانة وطولها نحو شبر ونصف الشبر. وتصنع من الفضة المجوفة بحجم أنبوب ريش الطير.

ومن الآلات التي كانت تستخدمها القابلات في التوليد اللوالب؛ وهي آلات تساعد في فتح فم الرحم وتصنع من الأبنوس، ويكون في طرف اللولب خشبتان عرض كل منهما نحو أصبعين وطولهما شبر ونصف، وفي وسط الخشبتين زائدتان تربطان فيهما تدخلان في المهبل ليفتح بها عند إدارة اللولب. كما استخدموا نوعًا من الصنانير ذات الشوكتين لجذب الجنين. ومنها أيضًا المشداخ وهو آلة يشدخ بها رأس الجنين ليسهل إخراجه من فم الرحم، ويشبه المقص وله أسنان كأسنان المنشار. ومنها أيضاً أداة تسمى المبخرة للتبخير بها عند احتباس دم الطمث والمشيمة، وتصنع من النحاس ويوضع طرفها الرفيع في القُبل والواسع على النار والبخور فوق الجمر. ومدفع الجنين وهو على شكل صنارة يشبك طرفه في الجنين ويدفع به إلى الأمام. واستخدموا المجارد (المكاشط)، وهي آلات تجرد بها الأضراس والأسنان لإزالة الكلس والسواد والصفرة عنها، وبعضها مصمم ليجرد به من الداخل وبعضها من الخارج وبعضها للجرد بين الأسنان والأضراس. ومن المجارد ما يستخدم لكشط العظام، وهي كالمبرد وتسمى المجارد خشنة الرأس، وكل المجارد تصنع من الحديد.
كما استخدم الجراحون العرب المحاجم والمحاقن. والمحاجم على ثلاثة أشكال: منها الصغير والمتوسط والكبير، وتصنع من النحاس أو من الصيني مدورة أسطوانية تستخدم لقطع النزف، ولا بد أن يكون لدى الطبيب كل المقاسات. وهناك المحجمة النارية والمحجمة المائية؛ فالأولى تصنع من النحاس الأصفر، وفي منتصفها ثقب بمقدار ما يدخل الإبرة يغلقه الحاجم بإصبعه عند الاستعمال، وحالما ينتهي يرفع إصبعه عن الثقب فتنحل المحجمة في الحال. أما المحجمة المائية فليس بها ثقب، وإنما تعبأ بالماء وتوضع على العضو مباشرة، وكلما كان حجمها أكبر استوعبت كثيرًا من الماء الحار أو المخلوط بالأعشاب. أما المحاقن فنوعان؛ كبير وصغير، وتستخدم الصغيرة للأطفال. وتصنع من الفضة أو النحاس أو الصيني. وأعلى المحقن واسع على هيئة كيس توضع فيه المادة المحقونة، وطرفه الأسفل الذي يدخل في الشرج أملس رقيق مصمت. ومنها محقن المثانة وهو صغير لطيف تحقن به المثانة ويصنع من الفضة. يملأ بالسوائل المدفأة ويدخل طرف المحقن في الإحليل ويدفع السائل بالضغط على مؤخرة المحقن ضغطًا شديدًا فيندفع السائل إلى المثانة. ومن الآلات المستخدمة في جراحة المثانة أيضًا المزراقة؛ وهي أداة لتقطير الماء في جوف المثانة، وبها ثلاثة ثقوب: اثنان منها على جانب واحد والثالث على الجانب الآخر، وتستخدم في دفع السوائل أو جذبها من المثانة. وهناك المشعب وهو آلة مثلثة الطرف تصنع من الحديد الصلب ولها مقبض خشبي تستخدم لتفتيت الحصاة في القضيب أو مجرى البول.

استخدم الجراحون أدوات دقيقة لاستئصال الأورام والناسور أو لقطعها؛ من ذلك البريد، وهو أداة كالمسبار تصنع من النحاس الأصفر أو الأبيض أو الرصاص، ويختلف حجمه وشكله باختلاف موضع الورم أو الناسور أو الخراج وحجمه. كما استخدموا المدس وهو آلة كالمرود لجس واستقصاء الأورام. وأنواع المدسات ثلاثة؛ كبير ومتوسط وصغير، ووظيفة المدس أن يُدخل (يدس) في أرطب مكان، ويدار بلطف بين الأصابع ثم ينزع ويفحص ما خرج معه من أنواع الرطوبات. ومما استخدم في جراحة الأورام المشرط، وهو آلة تشق بها الأورام، وهي على ثلاثة أنواع: كبيرة ومتوسطة وصغيرة، وهي عريضة ذات طرفين أحدهما حاد يستعان به في شق الورم. وهناك المكبس المجوف؛ وهو آلة تصنع من الفضة أو النحاس مسطحة، ووظيفتها كبس اللسان ليتمكن الجراح من رؤية الحلق وكشف أورامه. ومن الأدوات التي استخدموها في جراحة الناسور أيضًا المسبار المثقوب، كانوا يدخلون فيه خيطًا مفتولاً من خمسة خيوط ويربطون به أصل الناسور ويشدونه ويتركونه يومين أو ثلاثة حتى يسقط من تلقاء نفسه. ومن أدوات جراحة الأورام أيضًا الكاوية، وتشبه السكين المعوجة النصل، تكوى بها الأورام التي تنشأ في الأرجل كالفخذين والساقين والأقدام. وكذلك الكاوية المسمارية وتكوى بها بواسير الشرج والرحم. والكاوية الأنبوبية التي تكوى بها الأضراس وهي ذات أشكال متعددة، والكاوية الهلالية الطرف التي تكوى بها الفتوق، وكاوية البطن والكبد وكاويات قطع الشرايين وكاويات المفاصل. والكاوية الزيتونية ويكوى بها الفالج والصداع وعرق النَّسَا، إلى جانب كاويات تستخدم في الشقيقة وأمراض الكلى والمثانة وآلام الظهر.

أما في جراحة العيون والأنف والأذن والحنجرة، فقد استخدموا آلات عديدة. ومن ذلك أنهم استخدموا البريد وهو آلة شديدة الصلابة لثقب الملتحمة دون التعمق في الثقب، ومن ثم يستخدمون المقدح بعد إجراء الثقب. كما استخدموا القصبة في رفع جفن العين أثناء العملية. وكانت تتخذ قصبتان بطول الجفن وتشدان شدًا وثيقًا وتتركان مدة من الزمن حتى تموت الجلدة الزائدة وتسقط من تلقاء نفسها أو تقرض بالمقراض إن استغرقت مدة طويلة ولم تسقط. ومثل القصبة أيضًا مخالب التشمير، وهي آلات كالصنانير تستعمل أيضًا في رفع الأجفان. أما المقادح فهي آلات تشبه المباضع تستخدم في قدح الماء الذي يسيل من العين. كما استخدموا أنواعًا من المقصات في عمليات العيون منها الصغير الذي يستخدم لقطع ما يبقى من الجلد في عمليات الجفون ومقص التعقيم الذي تطهر به جروح العين بعد العملية. أما الشعر الذي ينبت في أشفار العين فكان يُتَخلص منه بوساطة كاوية يبلغ طولها نحو 15سم تسمى الكاوية الآسية لأن كيها على شكل ورقة نبات الآس. وكانت نواسير العين التي تنشأ في المآقي تزال بالكاوية المجوفة، أما استرخاء الجفن ومنطقة مافوق الحاجبين فكان يعالج جراحيًا بالكاوية الهلالية. كما استخدموا آلات الجراحة الرمدية؛ كالمقص ذي الشفرة العريضة والمقراض الذي يلقط السبل من الإكليل، والمنقاش لقطع الثآليل، والملقاط لأخذ الشعيرات الزائدة. ولقطع اللحم الزائد في داخل الأنف استخدموا ما يعرف بالمخرط، كما استخدموا للأنف أيضًا المسعط وهو آلة تقطر الدهن في الأنف، وكان يتخذ من الفضة أو النحاس وهو مسطح ذو مقبض في نهايته. أما ناسور الأنف فقد استخدموا له المنقب، وطرفه حاد مثلث الشكل ومقبضه خشبي مخروط.
ومن الأدوات التي استخدموها في جراحة العظام البيرم؛ وهي تشبه العتلة الصغيرة تصنع من الحديد طولها ثماني أصابع، أما عرضها فيختلف باختلاف حجم الجروح والعظام، وتستخدم لرد العظام المكسورة الناتئة على الجلد وتسويتها. ومنها خشبة الرأس؛ وكانوا يزيلون بها العظم الفاسد؛ وهي ذات رأس مدوَّر وتصنع من الحديد الصلب، وتوضع على الموضع المراد إزالته وتدار حتى يكشط الجزء الفاسد. كما استخدموا نوعًا من المثاقب لثقب العظام بحيث لا يتجاوز عظم القحف إلى الجهة الأخرى، ومن هذه المثاقب الكبير والمتوسط والصغير. ولتسوية خشونة ما يبقى من عظام استخدموا آلة تسمى المقطع العدسي. إلى جانب الأدوات السابقة استخدم الجراحون العرب أدوات أخرى كثيرة.

التخدير والإنعاش. لم تقتصر إضافات العرب في مجال الطب الجراحي على إجراء عمليات لم يُجر مثلها من قبل، واستحداث أدوات جراحية جديدة فحسب، بل إنهم طوروا ما وصل إليهم من علم التخدير والإنعاش ممن سبقهم، ثم اكتشفوا طرقًا أخرى أضافوها لهذا العلم. إن التخدير العام بالاستنشاق أو بالحقن لم يعرف إلا منذ وقت قريب نحو سنة 1260هـ، 1844م. وما انتقل إلى العرب من محاولات التخدير لا يعدو أن يكون واحدًا من ثلاثة أشياء: 1ـ السحر والشعوذة 2ـ التبريد 3ـ إعطاء جرعات من مزيج مخفف للألم عن طريق الفم. ويعود الفضل إلى العرب في اكتشاف المرقِّد (المبنج) العام. وهناك من القرائن ما يدل على أن العرب كانوا أول من استعمل التخدير عن طريق الاستنشاق. وكان ذلك يتم عن طريق الإسفنج المخدر؛ فكانت توضع قطعة من الإسفنج في عصارة من الحشيش والأفيون والزُّؤان، ثم تترك في الشمس لتجف ثم تحفظ. وقبيل بدء العملية تخرج وترطب ثانية، وتوضع فوق أنف المريض وفمه، فتمتص الأنسجة المخاطية المبنجات، فيخلد المريض إلى نوم عميق أثناء إجراء العملية الجراحية. وكان هذا الاكتشاف فتحاً في مجال الطب الجراحي وأكثر رحمةً من المشروبات المسكرة التي استخدمها الهنود والرومان والإغريق، وكانوا يجبرون مرضاهم على تناولها كلما أرادوا تخفيف آلامهم.

وإلى جانب اكتشافهم الكبير، وهو استخدام المرقِّد، جرب العرب أدوية مبنجة أو مخففة للألم لأولئك الذين يخضعون أو خضعوا للعمل الجراحي. من ذلك اللُّفَّاح؛ وهو نوع من النبات غليظ الجذر أصفر طيب الرائحة، كما استخدموا القنب الهندي (الحشيش)، والشوكران؛ وهو عشب سام ذو رائحة غير مقبولة إذا فُرك بالأصابع، والخشخاش؛ وأنواعه كثيرة، والبنج؛ وينتمي إلى الفصيلة الباذنجانية ومعروف بخواصه المبنجة، وحشيشة ست الحُسن. وعلى الرغم من أن مادة الإِثير أدخلت إلى حقل التخدير الاستنشاقي بشكل منتظم منذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، فإننا لا نعرف على وجه التحديد أول من اكتشف هذه المادة. إلا أن هناك من القرائن ما يشير إلى أن الفضل في ذلك يعود إلى العرب؛ فالعرب هم الذين اكتشفوا مادة الغول، وهم الذين اكتشفوا حمـض الكبريتيك (الزَّاج الأخضر). ثم أنهم أجروا تفاعلات وعمليــات تقطير بين الغول وحمض الكبريتيك، مما يقوي احتمال أن يكون العرب أول من اكتشف هذه المادة المهمة في التخدير. ولا غرو فإنهم اكتشفوا مادة الكحول وهي المادة الرئيسية لكل المبنجات السائلة والطيّارة المستخدمة في مجال التخدير حاليًا.
أما الإنعاش وإن لم يكن للعرب فيه خبرة واسعة إلا أنهم قد عرفوا مبادئه. فكانوا يدفعون كميات من الهواء عبر الرئتين بالضغط المتناوب، واستخدموا في ذلك المنفاخ. وتدلنا على ذلك القصة التي أوردها ابن أبي أصيبعة في كتاب طبقات الأطباء؛ وذلك أنه لما جاء نعي إبراهيم بن صالح، ابن عم الرشيد، استأذن الطبيب صالح بن بهلة الدخول على إبراهيم وهو في أكفانه ثم ما لبثوا أن سمعوا صوت ضرب بدن بكف ثم تكبيرًا، ثم استدعى صالح الرشيد وأخرج إبرة فأدخلها تحت ظفر إبهام اليد اليسرى للميت فجذب إبراهيم المسجّى يده إلى بدنه، فطلب الطبيب أن يجردوه من كفنه وطلب كندسًا (نوع من الدواء) ومنفخة من الخزانة، ونفخ في أنف إبراهيم لمدة ثلث ساعة، فاضطرب بعدها بدنه وعطس ثم هبّ مستيقظًا.

طب العيون. كان العرب يطلقون على هذا الفرع من الطب اسم الكحالة، ويسمون المشتغلين به من الأطباء باسم الكحالين. وقد قام العرب بترجمة ما وصلهم من كتب علم الكحالة من الهند واليونان والرومان. وكما فعلوا في حقل الطب الجراحي من حيث تطويره وتطوير الأدوات التي استخدمت فيه، قاموا بتطوير نوع من العمليات لم يرثوه عن أحد من الأمم الأخرى؛ فقد برعوا في قدح الماء الأزرق من العين مع الصعوبة التي تكتنف إجراء مثل هذه العملية حتى اليوم. وكانت نتائج هذه العمليات مضمونة، ويقال إنه لما أصاب الطبيب الرازي العمى، عرضوا عليه أن يجروا له عملية القدح فقال لهم إنه يفضل البقاء أعمى كيلا يرى أناس ذلك الزمان.

وإلى جانب ما توصلوا إليه من إجراء العمليات الجراحية لقدح الماء الأزرق، أجروا عمليات جراحية لقدح الماء الأبيض (الساد). وابتكروا فيها ست طرق كانت إحداها بوساطة المص، وكانوا يستخدمون في ذلك أنبوبًا زجاجيًا رقيقًا يدخلونه من مقدمة العين ويفتتون به العدسة المعتمة ثم تمتص هذه العدسة بعد ذلك. وكانت هذه العملية أحدث عملية جراحية لعلاج الساد آنذاك. وهناك شبه كبير من حيث المبدأ بين تلك العملية والعملية المتطورة التي تجرى الآن رغم الفارق في المعدات. كما ألف العرب العديد من الكتب في طب العيون وجراحتها ومداواتها. ومن أشهر كتب الكحالة كتاب عشر مقالات في العين لحنين بن إسحاق. ويعد هذا الكتاب نقطة الانطلاق في علم الكحالة عند العرب. وتطورت الكحالة على يد اثنين من أشهر الكحالين العرب هما أبو القاسم عمار بن علي الموصلي (ت 400هـ،1010م) وعلي بن عيسى الكحال (ت 430هـ،1039م). وكان الأول خبيرًا في طب العيون وإجراء العمليات الجراحية، وهو من أكثر أطباء العيون العرب ابتكارًا، وألّف كتابًا في أمراض العيون ومداواتها اسمه المنتخب في علاج أمراض العين. وقد مارس مهنته في القاهرة. أما علي بن عيسى فقد اشتهر إلى جانب حذقه مهنة الكحالة بكتابه المعروف تذكرة الكحالين، ومارس مهنته في بغداد. ويعتبره المستشرقون أكبر طبيب للعيون أنجبته العصور الوسطى، وترجموا كتابه إلى اللاتينية مرتين وإلى العبرية. وبيّن ابن أبي أصيبعة في طبقات الأطباء أن كتاب علي بن عيسى يحتوي على ثلاث مقالات؛ الأولى في حد العين وتشريحها، وطبقاتها، ورطوباتها، وأعصابها، وعضلاتها، ومن أين نبات كل طبقة منها، ومن أين يأتي غذاؤها، وإلى أين انتهاؤها، وأين موضعها ومنفعتها. أما المقالة الثانية ففي أمراض العين الظاهرة للحس، وأسبابها وعلاماتها وعلاجاتها. والمقالة الثالثة في أمراضها الخفية عن الحس وعلاماتها وعلاجاتها ونسخ أدويتها. أما مجموع ما ألفه من كتب في طب العيون فيبلغ 32 كتابًا. وبلغ مجموع ما وصفه من أمراض العيون في تذكرة الكحالين وحده 130 مرضًا. ولعل إبداع العرب وإجادتهم في هذا المجال يعود إلى كثرة انتشار أمراض العيون في المناطق الحارة. إلى جانب ذلك مارس الكحالون العرب تشريح عيون الحيوانات؛ مما أوقفهم على معلومات قيمة، منها تعرفهم على سبب حركة المقلة والحدقة ¸...وأن حركة المقلة مسببة من انقباض عضلات العين، كما أن حركة الحدقة مسببة عن انقباض وانبساط القزحية...·. ووصف ابن سينا عضلات العين وأعصابها ووظائفها.

ومن المراجع المهمة المحيطة في أمراض العيون كتاب صلاح الدين بن يوسف الكحّال واسمه نور العيون وجامع الفنون صنفه حوالي سنة 697هـ، 1297م. وقد قسمه إلى أبواب في: وصف العين، والبصر، والأمراض، وأسبابها وأعراضها، وحفظ صحة العين، وأمراض الجفون، والملتحمة، والقرنية، والحدقة، وأمراض العين التي لا تقع تحت الحواس، وأدوية العيون. أما أفضل من كتب عن العين من حيث الجانب الفيزيائي فهو الحسن بن الهيثم (ت 430هـ، 1038م)، وامتاز وصفه للعين بالدقة. كما بحث في قضايا البصريات وفي طبيعة النظر، وقال: "إن النور يدخل العين لا يخرج منها، وأن شبكية العين هي مركز المرئيات، وأن هذه المرئيات تنتقل إلى الدماغ بوساطة عصب البصر، وأن وحدة النظر بين الباصرتين عائد إلى تماثل الصور على الشبكيتين...". ومن الكتب التي اشتهرت كتاب ألفه أحد أطباء العيون في مصر، وهو القاضي فتح الدين أبو العباس القيسي (ت 657هـ،1258م) وكان يلقب برئيس الأطباء المصرية. ويحتوى كتابه على 15 فصلاً في علم الرمد. وكذلك كتاب الكافي في الكحل لخليفة بن أبي المحاسن الحلبي وألفه بين عامي 654ـ 674هـ، 1256 ـ 1275م.



طب الأطفال والولادة. عرف العرب الاختصاص الطبي، فكان هناك: الجراح ومجبِّر العظام، وطبيب الأسنان، والحجّام، والفصّاد، والكحّال، والمتخصص في الطب النفسي والعقلي، والبيطري، وأمراض النساء والولادة. وعلى الرغم من أننا لا نجد من اقتصر تخصصه على طب الأطفال، إلا أنهم كانوا ملمين إلمامًا طيبًا بهذا النوع من الطب إلى جانب درايتهم وتخصصاتهم الطبية الأخرى. ومنهم من اشتغل وكتب في هذا الحقل، فمنهم من بحث بطرف في علم الأجنة، والأمراض الوراثية، وهناك من وضع كتابًا خصصه للمولودين في سبعة أشهر وكيفية رعايتهم. كما بحثوا في الإرضاع والمرضع. وكان أول من كتب في طب الأطفال أبوبكر الرازي إلى جانب أنه كتب فصولاً مبتكرة في أمراض النساء والولادة، والأمراض التناسليّة. كما برعوا في دراسة أحوال العقم، وأشاروا إلى أن نوعًا منها ينشأ عن فقدان الوفاق النفسي والطبيعي بين الزوجين. وقالوا إذا انفصل الزوجان اللذان يعانيان هذا النوع من العقم، ثم تزوج كل واحد منهما زوجًا جديدًا فإنهما سينجبان.

الأطفال. اهتم الأطباء العرب بمراحل حياة الطفل منذ مولده، ولم يختلف تقسيمهم هذا كثيرًا عن تقسيم المحدثين. وتعرضوا لذكر أطوار الجنين في بطن أمه، وكيفية العناية به حالما يخرج إلى الحياة. كما حظي موضوع إرضاع الأطفال بنصيب وافر من العناية، فقد كتبوا فصولاً كثيرة في الخصائص التي ينبغي أن تتوافر في المرضع، ولبنها، وما عليها أن تتبعه من غذاء حتى يظل لبنها مغذيًا وصحيًا. وتحدثوا عن الأمراض التي تصيب الأطفال؛ كالإسهال والربو والبول في الفراش، والتشنج، والحَوَل، والقروح، والخراجات، والبثور، والتسنين، والقلاع، وأنواع الديدان، والأعصاب (شلل الأطفال)، والحُمَّيَات بأنواعها، والكزاز، وآلام الأذنين والعينين. ويعتبر كتاب الطبيب العربي أبو الحسن أحمد بن محمد الطبري (ت366هـ، 976م) أقدم مخطوط عربي موجود لدينا في طب الأطفال، نظرًا لعدم توافر نسخة عربية من مؤلف الرازي السابق، الذي توجد له ترجمات بالإيطالية والإنجليزية وقديمًا بالعبرية واللاتينية.

إلى جانب اهتمام الأطباء العرب وعنايتهم بالأطفال الذين يولدون لسبعة أشهر، اهتموا كذلك بالمواليد منذ الوهلة الأولى لمقدمهم، ولا يختلف كلام ابن سينا في هذا الصدد كثيرًا عما يستقبل به الطفل في المستشفيات الحديثة. فيذكر ابن سينا في الفصل الأول من الكتاب الأول من القانون ¸أن أول ما ينبغي على الطبيب عمله أن يبدأ بقطع السُّرة نحو أربع أصابع ويغسل جسمه، ويلبس ويقطَّر في عينيه وينظف منخره. وينبغي أن يوضع في مكان معتدل الهواء ليس ببارد ولا حار… ويجب أن يكون إحمامه بالماء المعتدل صيفًا وبالماء المائل إلى الحرارة غير اللاذعة شتاءً… ثم يقطر في أنفه الزيت العذب·. وأجمعوا على أن لبن الأم أفضل أنواع الحليب للطفل، وهذا ما يقرره الطب الحديث. وتطرقوا إلى نوع الغذاء الذي ينبغي أن تتناوله المرضع أثناء فترة الرضاعة، بحيث يكون ما تتناوله ذا قيمة غذائية متوازنة ومدرًا للبن ¸… فيجب أن يُعتنى بغذائها فيجعل من الحنطة ولحوم الخرفان والجداء والسمك·. كما نصحوا المرضع بالتوقف عن الإرضاع في أحوال معينة؛ كتعرضها لمرض مؤلم أو معد، أو إسهال شديد، أو احتباس للبول أو إمساك. كذلك تتوقف عن الرضاعة إذا أدت الضرورة أن تتناول دواء قوي المفعول حتى لا يتأثر الطفل بذلك، وهذا ما يؤيده الطب الحديث.

أما مدة الإرضاع، فقد حددوها بعامين، ولعلهم اهتدوا في ذلك بما ورد في القرآن ﴿والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة﴾ البقرة: 233. واشترطوا أن يكون الفطام في موسم اعتدال الطقس، فلا يكون في الصيف القائظ ولا الشتاء القارس. وهذا ما يؤيده الطب الحديث أيضًا؛ إذ إن ذلك يجنب الطفل الإصابة بالنزلات المعوية، حيث تقل كفاءة الجهاز الهضمي للطفل. ويجب أن يكون الفطام تدريجًيا كما يقول ابن سينا: "إذا جعلت ثناياه تظهر، نُقِل إلى الغذاء الذي هو أقوى بالتدريج من غير أن يعطى شيئًا صلب المضغ، ثم إذا فطم نقل إلى ما هو من جنس الحساء واللحوم الخفيفة، ويجب أن يكون الفطام بالتدريج لا دفعة واحدة". كما أشاروا إلى أنه ينبغي إذا تدرّب الطفل على المشي فلا يُمَكّن من الحركات العنيفة، "ولايجوز أن يحمل على المشي والقعود قبل انبعاثه إليه بالطبع؛ فيصيب ساقيه وصلبه آفة".

النساء والولادة. تناول الأطباء المسلمون الأمراض التي تعرض للنساء تناولاً ينم عن سعة اطلاع وعمق استنتاج. فقد تحدّثوا عن اضطرابات الطمث والدورة الشهرية، والآلام المرافقة لذلك، وتشريح الرحم وأمراضه. وكتب الرازي في أمراض النساء والولادة، وضمَّن ابن سينا الجزء الثالث من قانونه الحادي والعشرين كلامًا مفصلاً عن أمراض النساء والولادة بما في ذلك مختلف الأمراض التي تعرض للرحم ومسبباتها، والحامل وما يعتريها أثناء الحمل والولادة. ونجد في الفصل الأول من المقالة الأولى وصفًا تشريحيًا دقيقًا للرحم، وأنه "آلة التوليد التي للإناث... وليس يستتم تجويفها إلا عند استتمام النُّمو... لأنه يكون قبل ذلك معطلاً ولا يحتاج إليه... وموضعها خلف المثانة... ومن قدام المعى، وطولها المعتدل في النساء ما بين ستة أصابع إلى أحد عشر إصبعًا... والرحم تغلظ وتثخن وكأنها تسمن، وذلك في وقت الطمث، ثم إذا طهرت ذبلت ويبست. ولها أيضًا ترفق مع عظم الجنين، وانبساطها بحسب انبساط جثة الجنين. ورقبة الرحم عضلية وفيها مجرى محاذية لفم الفرج... ومنها تبلغ المني، وتقذف الطمث، وتلد الجنين، وتكون في حالة العلوق في غاية الضيق" وشرح ابن سينا وغيره آلية الولادة وكيفية خروج الجنين طبيعيًا بنزول رأسه أولاً، والولادة غير الطبيعية ـ القيصرية ـ بخروج الرجلين أولاً. وقد أجرى الأطباء المسلمون عمليات قيصرية ناجحة. وكتبوا عن العقم وأسبابه، وعزوه إلى أسباب في الرجل وأسباب في المرأة. وعزاه ابن سينا إمّا لسبب "في مني الرجل أو مني المرأة، وإما في أعضاء الرحم، وإما في أعضاء القضيب وآلات المني. أو السبب في المبادئ، كالغم والخوف والفزع، وأوجاع الرأس وضعف الهضم والتخمة وإما لخلط طارئ". قالوا إن من العقم ما يعود إلى العوائق الآلية في عنق الرحم من تشنج أو تضييق أو بسبب ندب، أو انسداد، أو انقطاع الطمث، أو انقلاب الرحم، أو أمراض الرحم من ورم وقروح وزوائد لحمية. ومن هذا القبيل ما قال به ابن سينا "أما السبب في الرحم فإما سوء مزاج مفسد للمني أو مُضْعِف للقوة الجاذبة للمني ... أو مانع إياه عن الوصول لانضمام من الرحم. أو التحام من قروح أو لحم زائد ثؤلولي... أو يعرض للمني في الرحم الباردة الرطبة، ما يعرض للبذور في الأراضي النزَّة، وفي المزاج الحار اليابس ما يعرض في الأراضي التي فيها نورة مبشوشة، وإما لانقطاع المادة وهو دم الطمث... وإما لميلان فيه (أي الرحم)، أو انقلاب... أو لشدة هزال البدن... أو آفة في الرحم ومن ورم وقروح... وزوائد لحمية مانعة". أما السبب عند الرجل فقد أرجعوه إلى ضعف أوعية المني أو ضعف قوتها المولدة للمني، أو بسبب قصر القضيب نفسه، أو لاعوجاجه فلا يزرق المني في فم الرحم. والمتمعن في كل ما سبق، يجد أن معظم ما وصفه الأطباء العرب من أسباب للعقم، قال بها العلم الحديث وزاد عليها من واقع التطور.

بحث الأطباء المسلمون أيضًا في الحمل والوضع، وتطور الجنين داخل الرحم بعد الإخصاب، وشكاوى الحمل ومخاطره والتغيرات التي تطرأ على الحامل، ووجوب مكافحة الإمساك بالملينات لا المسهلات، وأنواع الأطعمة التي ينبغي أن تتناولها الحامل، والابتعاد عن اضطرابات المعدة، وبضرورة ممارسة نوع من الرياضة المعتدلة المتمثلة غالبًا في المشي دون إفراط، واجتناب الحركة المفرطة، والوثب، والضرب، ومراعاة الجانب النفسي لديهن "ولا يورد عليهن ما يغمهن ويحزنهن، ويبعد عنهن جميع أسباب الإسقاط وخصوصًا في الشهر الأول... ويجب أن تشتد العناية بمعدتهن". كما شخصوا أعراض مانسميه الآن بالحمل الكاذب (الرحا). وبينوا الصفات التشريحية المرضية له، فمثلاً يقول ابن سينا: "إنه ربما تعرض للمرأة أحوال تشبه أحوال الحبالى من التباس دم الطمث وتغيير اللون وسقوط الشهوة، وانضمام فم الرحم. ويعرض انتفاخ الثديين وامتلاؤهما وربما عرض تورمهما، وتحس في بطنها بحركة كحركة الجنين وبحجم كحجم الجنين... وربما عرض طلق ومخاض ولا يكون مع ذلك ولد؛ وربما كان السبب فيه تمددًا وانتفاخًا في عروض الطمث، ولا تضع شيئًا".

تحدث الأطباء المسلمون عن عسر الولادة، وبينوا أن ذلك يعود إلى واحد من: 1ـ الحامل، 2ـ الجنين، 3ـ الرحم، 4ـ القابلة، 5ـ أسباب أخرى. وبينوا تفاصيل مسؤولية كل واحد منها في عسر الولادة. وبحثوا في أنواع أمراض الرحم من أورام حميدة وخبيثة، وهبوط الرحم وتشوهاته وسيلاناته ونزفه. ولم تغب عنهم الأدوية التي تعالج كلاً من هذه الأمراض سواء أكانت عقاقير عشبية، أم حِمْيات غذائية أو أبخرة أو مسهلات منقية. وتكلم ابن سينا بإسهاب عن آفات وضع الرحم وأورامها. ونتوء الرحم وانقلابها وميلانها واعوجاجها، وكذلك الورم الحار في الرحم والورم البلغمي والورم الصلب.

الطب النفسي. لم يقتصر الطب عند العرب والمسلمين على العلاج العضوي فحسب، بل تعدّاه إلى العلاج النفسي. وكانوا يرون الوهم والأحداث النفسية من العلل التي تؤثر في البدن. لذا نجد أن إخوان الصفا أشاروا إلى إعطاء المريض الفرصة ليسرد أحوال علّته وأسبابها كما يشعر بها هو، ثم يشرع الطبيب بعد ذلك في محاولة إزالتها ورفع الوهم المسيطر على المريض والتقليل من شأن المرض. وقد خصص الأطباء جناحًا في كل مستشفى كبير للأمراض العصبية والعقلية. وأشار الرازي إلى أهمية العامل النفسي في العلاج، وكان أول طبيب يتوصل إلى الأصول النفسية لالتهاب المفاصل الروماتيزمي. وقد فرق بينه وبين مرض النقرس. انظر: النقرس. وقرر أنه مرض جسدي في ظاهره إلا أنه ناشئ عن الاضطرابات النفسية، وأن أكثر من تظهر عليهم هذه الأعراض من أولئك الذين يكظمون الغيط؛ وبتراكمه يتعرضون لهزات نفسية كبيرة. بل إن الرازي رأى أن بعض أنواع سوء الهضم تنشأ عن أسباب نفسية؛ فقد "يكون لسوء الهضم أسباب بخلاف رداءة الكبد والطحال، منها حال الهواء والاستحمام ونقصان الشرب، وكثرة إخراج الدم والجماع والهموم النفسانية. وينبغي للطبيب أن يوهم المريض بالصحة ويُرجّيه بها، وإن كان غير واثق بذلك. فمزاج الجسم تابع لأخلاق النفس". وكتب بعض الأطباء رسائل ومؤلفات في الصحة النفسية، فكتب ابن عمران كتابًا عن المالنخوليا، كما كتب ابن ميمون (ت 415هـ، 1024م) رسالة سماها الرسالة الأفضلية تبحث في الحالات النفسية المختلفة كالغضب والسرور والحزن وأثرها في الصحة، وأشار إلى أن علاجها يتم برياضة النفس وتقويتها. وتدل هذه الرسالة على أنه قد أدرك فائدة تسخير قوى النفس في علاج أمراض البدن. وقد كان المجال الذي سلكه أبوعمران موسى بن ميمون في الطب النفسي نقلة نوعية نستشفها من قول الشاعر:


أرى طب جالينوس للجسم وحده وطب أبي عمران للعقل والجسم

كما أدلى ابن الهيثم بدلوه في هذا الشأن عند حديثه عن الموسيقى، فقد كتب عن تأثير الموسيقى في الإنسان والحيوان. ومما يُسجَّل للطبيب العربي في هذا المجال سبقه في استخدام الموسيقى والإيحاء في علاج الأمراض النفسية، وليس بعيدًا أن يكون هناك أطباء عرفوا مبادئ التحليل النفسي ووقفوا من خلاله على عدد من الحقائق المرضية. فنجد أن ابن سينا قد عالج في جرجان أحد أبناء الأمراء بعد أن استعصى علاجه على جميع الأطباء. وتوصل عن طريق الاستقصاء إلى أن الفتى لم يكن به أي مرض عضوي وأنه مشغوف بإحدى فتيات حي معين. وبملاحظة اضطراب نبض الفتى توصل ابن سينا لمعرفة اسم الحي واسم الفتاة. ونظير ذلك ما تردد من قصة علاجه أحد أمراء بني بويه الذي كان قد أصيب بمرض عصبي امتنع معه عن تناول الطعام، وتوهم أنه صار بقرة وينبغي ذبحه. فلما عُرِض عليه أخذ شفرة حادة، وتقدم نحو الأمير وأضجعه موهمًا إياه أنه يريد ذبحه وهو مستسلم. وعند لحظة معينة صاح ابن سينا بصوت مرتفع "هذه بقرة نحيفة هزيلة، أعلفها أولاً حتى تسمن". وهنا بدأ الأمير في الأكل بشراهة، وكان ابن سينا يدسّ في طعامه الدواء حتى تم له الشفاء. وقد عزا ابن سينا بعض حالات العقم إلى عدم التوافق النفسي بين الزوج والزوجة. وممن اهتموا بالبحث في الأمراض النفسية أبوالبركات هبة الله ابن ملكا (ت 561هـ، 1165م). وقد حاول جادًا استحداث علاج لها، ونجح في ذلك إلى حد أدهش علماء الطب في القرن السادس الهجري، الثاني عشر الميلادي، وصارت نظرياته في هذا الميدان متداولة بين أطباء العالم في زمانه.

التشريح. كان التشريح عُدّة الطبيب الجراح. وصرّح الأطباء المسلمون أن الجراح ينبغي أن يكون عالمًا بالتشريح، ووظائف الأعضاء ومواضعها "ليجتنب في فتح المواد قطع الأعضاء وأطراف العضل والأوتار والألياف". ولا شك أن الجراحين المسلمين اعتمدوا كثيرًا في فقههم الجراحي على ما ترجموه من اللغة اليونانية وبخاصة كتاب جالينوس الذي ترجم بعنوان قاطاجانس في الجراحات والمراهم. وكانت معرفة الجراحين بهذا الكتاب أمرًا إلزاميًا، لأن الطبيب ينبغي أن يكون واعيًا بكيفية فتح البدن والخياطة واستعمال المراهم وعيًا كاملاً. ومن الكتب الأخرى التي ترجمها المسلمون لجالينوس في التشريح: اختصار كتاب مارنيس في التشريح؛ في تشريح الحيوان الحي؛ في تشريح الحيوان الميت؛ علم أبقراط في التشريح؛ تشريح الرحم؛ تشريح العين؛ تشريح آلات الصوت. وقد ساعدت هذه الترجمات وغيرها المسلمين في علم التشريح ومنافع الأعضاء، ثم استفادوا منها في علم الجراحة. وكان على رأس الاختبارات التي يؤديها الطبيب اختبارًا في علم التشريح يسمى محنة. فعلى سبيل المثال، يقول الرازي في كتابه محنة الطبيب: "فأول ما تسأله عن التشريح ومنافع الأعضاء، وهل عنده علم بالقياس وحسن فهم ودراية في معرفة كتب القدماء، فإن لم يكن عنده ذلك، فليس بك حاجة إلى امتحانه في المرضى. وإن كان عالمًا بهذه الأشياء، فأكمل امتحانه حينئذ في المرضى". وقد برع ابن طفيل (ت 581هـ،1185م) في تشريح الأجسام الميتة والحية؛ وقد شرَّح ظبية حيّة وشق عن قلبها، وذكر أن الدم الموجود في القلب كالدم الموجود في سائر الجسد، وأنه متى سال من الجسم جمد.

شرَّح الأطباء المسلمون عيون الحيوانات، واكتسبوا من ذلك خبرة. وقد وضع ابن عيسى رسالة في تشريح العين وأمراضها الظاهرة والباطنة، ترجمت إلى اللاتينية، وكانت ذات أثر بالغ إبان ما اصطلح عليه في أوروبا القرون الوسطى.

ولم يقْدم الأطباء المسلمون على عمليات تشريح الجسد البشري، ولعل ذلك يعود إلى أسباب دينية أو إنسانية أو اجتماعية. لكن هناك من يقولون إن بعضهم قد مارس ذلك سرًّا، ويستدلون على ذلك بدليلين؛ أولهما أنهم وصفوا أجزاء الجسم البشري ـ كالعين والقلب والكبد ـ وصفًا بالغ الدقة، وثانيهما أنهم خرجوا بآراء تخالف آراء كثير من الأطباء اليونانيين، وبينوا خطأهم في بعض ما ذهبوا إليه. فعلى سبيل المثال، نجد أن ابن النفيس ينتقد آراء جالينوس في التشريح، وكذلك آراء ابن سينا الذي قال بآراء جالينوس؛ فقد وجد من خلال تشريحه للقلب والحنجرة أن هناك صلة بين التنفس والنبض، أو بين التنفس وانتقال الدم إلى القلب من الرئتين. فأظهر أخطاء جالينوس وابن سينا فيما يختص بتركيب الرئتين ووظيفتهما، وكذلك وظيفة الأوعية الشعرية التي تربط بين الشرايين والأوردة ووظيفة الحويصلات الرئوية والعروق الممتدة بين الرئة والقلب.

ويمكن إيجاز مآثر الأطباء المسلمين وعلى رأسهم ابن النفيس في مجال التشريح فيما يلي:

1ـ اكتشاف الدورة الدموية الصغرى التي تجري في الرئة ويمر الدم خلالها من الشريان الرئوي إلى القلب. وقد يكون هذا الاكتشاف هو الذي مهد الطريق لوليم هارفي ليكتشف الدورة الدموية الكبرى. 2ـ نقل مؤلفات جالينوس وحفاظهم عليها وعدم اتباعهم له في كل ما أتى به، بل درسوه بوعي وأضافوا إليه وخالفوه فيما وجدوا أنه الأصوب. 3ـ الوقوف على تركيب الرئة والأوعية الشعرية، ووصف الشريان الإكليلي ووصف الدورة الدموية فيه، وإثبات أن للقلب بطينين فقط 4ـ إثبات عدم وجود أي هواء أو رواسب مع الدم في شرايين الرئتين ـ مخالفين رأى جالينوس. 5ـ انتقدوا وصف جالينوس للهيكل العظمي؛ فقد بين عبداللطيف البغدادي (ت 619هـ، 1222م) أن الفك الأسفل قطعة واحدة وليس قطعتين بعد أن فحص أكثر من 2,000 جمجمة بشرية 6ـ اكتشف ابن القف (ت 685هـ،1286م) عدد الأغشية القلبية ووظيفتها واتجاه فتحاتها لمرور الدم 7ـ معرفتهم أن الدم يجري إلى الرئتين حيث يتجدد، ويتشبع بالهواء وليس لمدِّهما بالغذاء؛ وهذا ما أكده وليم هارفي فيما بعد. 8ـ وصف علي بن عباس المجوسيّ الدورة الدموية في الأوعية الشعرية أثناء شرحه لوظيفتي الانقباض والانبساط، وكان وصفه دقيقًا إلى حدّ كبير 9ـ تأكيدهم على وجود اتصال بين الشرايين الموجودة في الرئتين وأوردتهما حتى تتم الدورة الدموية داخل الرئة 10ـ ملاحظة أن "تشريح العروق الصغار في الجلد يعسر في الأحياء لتألمهم، وفي الموتى الذين ماتوا بسبب أمراض تقلل الدم كالإسهال والنزف، ويسهل فيمن مات بالخنق..." وهذا قريب مما يؤكده علم الأمراض (الباثولوجيا) حاليًا. 11ـ اكتشاف أن جدران أوردة الرئتين أغلظ كثيرًا من جدران شرايينها، وأنها تتألف من طبقتين 12ـ البراعة في تشريح العيون وإجراء العمليات فيها، وبيّن ابن سينا أن العضلات "المحركة للمقل ست؛ أربع منها في جوانبها الأربعة فوق وأسفل المآقي"، وقال ابن النفيس: "إن العين آلة للبصر وليست باصرة، ومنفعة هذه الآلة تتم بروح مدرك يأتي من المخ. وهذا ما أثبته العلم حاليًا؛ حيث ينقل العصب البصري الصورة إلى الدماغ الذي يقوم بدوره بتفسير المرئيات 13ـ مخالفتهم رأي جالينوس الذي يقول بوجود فتحة في جدار القلب الفاصل بين البطينين، وتوضيح أن الدم يجري في القلب ويدور فيه دورة كاملة، ويتدفق في أوردة الرئتين لينتشر فيهما ويتحد مع الهواء فيتخلص مما فيه من شوائب، ثم يجري في شريان الرئتين ليصل إلى البطين الأيسر بعد امتزاجه بالهواء.

الأمراض والعلاج. للمرء أن يتخيل القدر الكبير من الأمراض المستوطنة والطارئة في أمة امتدت حدودها من الصين شرقًا إلى الأندلس (أسبانيا) غربًا. هذا إلى جانب المسمَّيات العديدة للمرض الواحد وذلك باختلاف الأمصار التي حلّ بها المسلمون. فعلى سبيل المثال يذكر ابن العين زربي (ت 548هـ،1153م) في خاتمة مقالته عن الشقفة ويسمى الآن الجمرة والخزفة "اعلم أن هذا المرض الذي شاهدناه يعرض في أكثر البلاد مثل أرض الشام والعراق وخراسان ومصر وأرض المغرب، ويسمونه بالشقفة، وقد يسمونه خزفة، وقد يسمى بأرض المغرب إسفنجة، وإنما هو ورم حار... يبتدئ صغيرًا كالدُّمَّل... ثم تتفقأ تلك البثور...".عرَّف الأطباء المسلمون المرض بأنه حالة يكون فيها العضو في الجسم فاشلاً جزئيًا أو كليًا عن أداء وظيفته. وحصروا أسباب الأمراض وأعراضها. ومعظم من صنف منهم في الأمراض العامة وعلاجها، كان يبدأ من أمراض الرأس متنقلاً عبر الجسم حتى يصل القدم. أما الذين كتبوا كتابات تخصصية فكانوا يكتبون إما عن مرض بعينه وكيفية علاجه، أو عما يصيب عضوًا معينًا في الجسم كالأمراض التي تصيب الرأس، والتي تعرض للعين أو الأذن أو البطن... إلخ. فعلى سبيل المثال، كتب ابن العين زربي حول الأمراض الجلدية وتناول فيما تناول مرض الشقفة؛ وهي الآن تعد من القروح الناتجة عن إصابة الجلد بعدوى جراثيم المكورات العنقودية (نوع من البكتيريا). ومن أمثلة التصانيف المتخصصة كتاب عشر مقالات في العين لحنين بن إسحاق، ويذكر فيه الأمراض التي تصيب العين والأدوية التي تعالج هذه الأمراض وأنواعها؛ المفردة منها أو المركبة، وطريقة تحضير المراهم.

يورد الرازي في كتاب الحاوي نماذج مما ينبغي اعتماده في تشخيص الأمراض من مثل "جس النبض، ومراقبة درجة الحرارة، والرَّعشة، واحتقان الوجه، والعينين، والتنفس، والأظافر". أما ابن سينا فيولي في القانون أهمية لفحص البول وتغيُّر لونه، ومدى صفائه ورائحته، ويوصي الأطباء في المستشفى بضرورة مراقبة المريض بدقة، وتدوين الملاحظات التي تطرأ عليه، وتعليق البيانات على سريره. وفي مجال العلاج النفسي، ركزوا على ضرورة دراسة الأحوال العائلية والمادية والاجتماعية للمرضى، وكان علي ابن عيسى البغدادي يستقصي تاريخ المرض عند المريض بسؤاله عن الأمراض التي أصيب بها في حياته. ويصف الرازي مرض ذات الجنب وذات الرئة وكيفية مداواتهما، وفرّق بين الألم الذي يسببه القولنج والذي تسببه الكلى، وعالج التهاب اللوزتين. كما ميّز ابن سينا بين الشلل الناجم عن سبب مركزي في الدماغ، والآخر الناجم عن سبب محلي خارج الدماغ، وميّز بين الالتهاب السحائي الحاد والثانوي. وشخص الالتهاب الرئوي، والأمراض المختلفة التي تعرض للكبد، ووصف المغص المعوي والكلوي. كما اكتشف أبو الحسن علي بن سهل الطبري (ت 366هـ، 976م) لقاحًا ضد داء الجرب، وقد عالج الأطباء المسلمون الشلل والنزف بالأدوية المبردة وبالماء البارد. وعالجوا خلع الكتف بطريقة تشبه إلى حد كبير الطريقة الجراحية الحديثة. وكان لسان الدين بن الخطيب أول من أشار إلى أن الطاعون مرض مُعْدٍ؛ ينتقل عن طريق العدوى من شخص إلى آخر. ويتبين من مؤلفات ابن التميمي أنه "... عمل عدة معاجين ولخاخ طبية ودخنًا دافعًا للوباء..."، وكان هذا الدخن الدافع للوباء هو الذي أوحى للأطباء فيما بعد بفكرة استعمال التبخير لقتل الجراثيم. وكان للأطباء المسلمين السبق العلمي حين وصفوا الجذام، وأمراض العيون، واستعمال الماء البارد في علاج التيفوئيد.

اتبع الأطباء المسلمون إلى جانب العزل في المستشفيات أساليب متنوعة أخرى في العلاج. فكانوا يدرسون سير المريض اليومي، ويلاحظون المريض من حيث تنفسه ولون بوله ورواسبه وبرازه، ونبضه، ولون جلده وأظافره، وقياس درجة حرارته. ويراقبون تقدم حاله مع استخدام العلاج الموصوف؛ كل هذا يُعرف اليوم بالفحص السريري.

يعد الرازي أول من وصف الجدري والحصبة بوضوح، ويعتبر كتابه الحاوي بمثابة سجل دقيق لملاحظاته على مرضاه وسير المرض لديهم. كما أن ابن زهر كان أول من وصف خُرّاج الحيزوم والتهاب التامور الناشف والانسكابي، وكان دقيق الوصف للحوادث السريرية. والأطباء المسلمون أول من لفت الأنظار إلى شكل الأظافر لدى مرضى السل. وكان ابن سينا في كتابه القانون في الفصل الخاص بالديدان المعوية، أول من أشار إلى دودة الإنكلستوما والمرض الذي تسببه والذي سمَّاه الرهقان (الإنكلستوما). وقد سمى ابن سينا هذه الدودة باسم الدودة المستديرة، وهي التي أعاد دوبيني اكتشافها في إيطاليا عام 1254هـ، 1838م. ووصف ابن سينا مرض الفيل (الفيلارية) وانتشاره في الجسم، كما كان أول من وصف النار الفارسية (الجمرة الخبيثة).

يُحمد للأطباء المسلمين تمييزهم بين الأمراض ذات الأعراض المتشابهة؛ مما ساعدهم على علاجها، فقد ميزوا بين الالتهاب الرئوي والتهاب البلورة، وبين الأخير والتهاب الحجاب الحاجز، وبين الالتهاب السحائي الأولي والثانوي، وبين المغص المعوي والكلوي، وبين الشلل الناتج عن سبب مركزي والناتج عن سبب خارجي.

حافظ الأطباء المسلمون، في كتاباتهم عن الأمراض العقلية وعلاجها، على روح علمية صادقة تؤازرها الملاحظة والتجربة، فلم يعزوا ـ كما فعل أطباء الحضارات التي سبقتهم ـ تلك الأمراض إلى التأثيرات الخارجة عن النطاق الطبيعي كعمل الأرواح الشريرة التي أتت بهذه الأمراض عقابًا لآثام البشر، بل نجد استقراء وتشخيصًا ومعالجة في الحدود الطبيعية لجسم المريض وظروفه البيئية والاجتماعية التي تؤثر فيه.

البيمارستان النوري الكبير في الشام كان من أهم البيمارستانات.
المستشفيات. كان يطلق عليها البيمارستانات، وكانت أحد المظاهر المهمة لتقدم الرعاية الطبية لدى المسلمين. وقد عرف العالم الإسلامي هذه المستشفيات منذ عهد الرسول ³ وبالتحديد إبان غزوة الخندق (5هـ، 627م)؛ عندما أمر بضرب خيمة متنقلة للصحابية رفيدة بنت سعد الأسلمية، وكانت أول مستشفى حربيًا متنقلاً لتطبيب الجرحى. وعرف المسلمون نوعين من البيمارستانات: المتنقلة والثابتة. وكانت المتنقلة منها أسبق، وكانت تنقل من مكان إلى آخر في ضوء الحاجة إليها كانتشار الأوبئة أو بسبب الحروب كما حدث في غزوة الخندق. وكانت هذه البيمارستانات تجهز بمعظم مستلزمات المستشفى الثابت من حيث الأدوات والعقاقير والطعام والشراب والأطباء، وكانت تنقل من منطقة إلى أخرى حيث لا توجد بيمارستانات ثابتة. وبتطور شكل الدولة صارت تصحب الملوك والأمراء في رحلاتهم للقنص والحج وخلافهما. وبلغت ضخامة بعض هذه البيمارستانات أن كانت تحملها قافلة من الإبل مكونة من 40 جملاً. وكان السلطان الظاهر برقوق (ت 801هـ، 1398م) يصطحب مستشفى محمولاً كبيرًا جدًا. وظهرت فكرة المستشفيات المتنقلة بشكلها المنتظم في العهد العباسي؛ ففي عهد الخليفة المقتدر تأسس أول مستشفى مدني متنقل ليعالج المرضى في شتى مناطق الخلافة.

أما المستشفيات الثابتة بشكلها المكتمل فقد عرفت لأول مرة في عهد الوليد بن عبدالملك (88هـ، 706م) وجعل فيها الأطباء وأجرى لهم الأرزاق، وأمر ببناء مستشفى لمعالجة المجذومين وحبسهم حتى لا يمدوا أيديهم بالسؤال، وخصص لكل ضرير دليلاً ولكل مُقعد خادمًا. وباتساع رقعة الدولة الإسلامية كثرت البيمارستانات الثابتة لا سيما في المدن الكبرى مثل بيمارستان هارون الرشيد في بغداد، وكان يرأسه ماسويه الخوزي، من أطباء بيمارستان جنديسابور. وكان بها أيضًا بيمارستان البرامكة، وكان يقوم بالطبابة فيه ابن دهني، وبيمارستان ابن طولون، وهو أول مستشفى من نوعه في مصر، وكان ممنوعًا فيه علاج الجنود والمماليك، وكان أحمد بن طولون يشرف بنفسه عليه ويزوره كل يوم جمعة. ومن أهم البيمارستانات التي أنشئت في مصر: زقاق القناديل، العتيق، القشايش، السقطيين، الناصري، الإسكندرية، الكبير المنصوري، والمؤيدي. ومن أهمها في الشام البيمارستان النوري الكبير، والقيمري، وآراغون، وأنطاكية، وحماة، والقدس، وعكا. وازداد عدد هذه البيمارستانات في عهد الأيوبيين والمماليك خاصة في الشام والعراق. ويعود ذلك إلى الظروف التي طرأت بسبب الحروب الصليبية، ولم تخل بلدة آنذاك من مستشفى متنقل أو ثابت.


مخطط للبيمارستان النوري
العمل في البيمارستانات. كانت البيمارستانات تقسم إلى قسمين منفصلين؛ أحدهما للذكور والآخر للإناث. وكان كل قسم مجهزًا بما يحتاج إليه من آلات وخدم ومشرفين من الرجال والنساء. وينقسم كل قسم من هذين القسمين إلى قاعات تخصصية؛ فهناك قاعة للأمراض العقلية، وقاعة للأمراض الباطنية، وقاعة للجراحة، وقاعة للكحالة، وقاعة لتجبير العظام وقاعة للبرص. وكانت كل قاعة مقسمة بدورها لتخصصات أدق؛ فقاعة الأمراض الباطنية، على سبيل المثال، بها قسم للحُمَّيَات، وقسم للمبرودين (المتخومين)، وقسم للإسهال… وهكذا.

وكانت هذه البيمارستانات فسيحة جيدة البناء وباحاتها الداخلية وأبهاؤها واسعة، وكانت تعتمد على الأوقاف في نفقاتها؛ سواء ما ينفق على المرضى أو الأطباء أو الطلاب. وكانوا يسجلون هذه الأوقاف في حجج مكتوبة ينقشونها على حجارة للتأكيد على توثيقها. وكان الماء فيها جاريًا بصورة مستمرة، ولكل بيمارستان رئيس يطلق عليه ساعور البيمارستان، ولكلّ قسم رئيس؛ فهناك رئيس للجرائحية (الجراحين) ورئيس للكحالين ورئيس للأمراض الباطنة.

وألحقت بكل مستشفى شرابخانة (صيدلية) سميت في عصور لاحقة أجزخانة، لها رئيس يسمى المهتار؛ أي الشيخ الصيدلي، يساعده غلمان يطلق على كل واحد منهم شراب دار. وكان لكل بيمارستان ناظر يشرف على الإدارة. ومن الوظائف المهمة في البيمارستان رئيس الأطباء، ويرأس مجموعة الأطباء، ويأذن لهم بالتطبيب، ويحدد لهم مواعيد تناوب العمل، ويحدد لكل طبيب موعدًا معلومًا لزيارة القاعة التي يعالج فيها مرضاه. وتأتي بعد وظيفة رئيس الأطباء وظيفة رئيس التخصص؛ كرئيس الكحالين الذي يرأس أطباء العيون وسلطته عليهم كسلطة رئيس الأطباء، ورئيس الجرائحية الذي يرأس الجراحين ومجبري العظام. وكان هؤلاء الأطباء مقدمين، يكرمهم الخلفاء والأمراء والوجهاء ويغدقون عليهم، ولم يمنع هذا الإكرام الكثيرين من العمل في البيمارستانات احتسابًا لوجه الله.

إلى جانب الصيدلية الملحقة بالبيمارستان، كان لكل بيمارستان حمام عام ومكتبة، ومكان يخصص لرئيس الأطباء يقوم فيه بإلقاء الدروس على الطلاب. وكانت هذه البيمارستانات تستقبل المرضى من مختلف الأجناس والطبقات من الذكور والإناث، من المسلمين وغيرهم، وتوفِّر للمريض إقامة كاملة تتضمن المأوى والطعام إلى جانب الرعاية الطبية دون مقابل. والمتَّبع في هذه البيمارستانات أنه بمجرد السماح للمريض بالدخول، تنزع ثيابه وتحفظ في مكان خاص إلى أن يخرج معافىً، ثم يمنح ثيابًا أخرى نظيفة، ويظل فيه إلى أن يبرأ تمامًا. وعلامة ذلك أن يستطيع أكل رغيف كامل من الخبز وفرُّوج (دجاجة) ثم يخرج برازًا كاملاً. بعد ذلك يعطى صدقة البيمارستان؛ ثوبًا وبعض المال، حتى يخلد إلى الراحة في فترة النقاهة ولا يضطر للعمل.

كانت البيمارستانات بمثابة مستشفيات تعليمية، يتلقّى فيها طلاب الطب علومهم. فبعد أن يتفقد الطبيب مرضاه ومعه طلابه، يأتي إلى إيوان خاص مزوّد بكل الآلات والكتب ثم يلقي عليهم دروسه أو يناقش معهم بعض الحالات التي وقفوا عليها. وكان بعض كبار الأطباء يجعل له مجلسًا عامًا في منزله أو في المدارس الخاصة لتدريس الأطباء الجدد.

كان اختيار مواقع هذه المستشفيات يتم بعد البحث والتقصي لتشييدها في أكثر الأماكن ملاءمة من حيث المناخ؛ فيذكر أن عضد الدولة لما طلب من الرازي اختيار موضع يقيم عليه البيمارستان العضدي في بغداد، أمر الرازي أن تعلّق قطع من اللحم في وقت واحد في أماكن مختلفة من المدينة فأيها أسرع إليه الفساد تركوه لسوء هوائه.

روّاد الطب وأهم مؤلفاتهم. كان العمل في حقل الطب في بداية الأمر مهنة يزاولها كل من قرأ الطب على أحد أهل الصناعة المرموقين، إلا أنه بمرور الزمن تسلَّل إلى حقل الطب عدد كبير من الأدعياء. واتفق أن أخطأ أحد هؤلاء نحو عام 319هـ، 931م أثناء علاجه أحد العامة مما أدى إلى موت المريض، فأمر الخليفة المقتدر بالله ألا يمارس مهنة الطب إلا من يجتاز امتحانًا يشرف عليه سنان بن ثابت بن قرة. وقام سنان بعقد امتحان لنحو 900 من المتطببين؛ مما كشف عن كثير من هؤلاء الأدعياء. وصار هذا الأمر فيما بعد تقليدًا متبعًا في معظم أمصار المسلمين. ثم وُكِل إلى المحتسب، فيما بعد، أمر تنظيم اختبار الأطباء وفحص معلوماتهم، والتعرف على مقدراتهم وكفاياتهم ومدى حذقهم لصناعة الطب. وكان المحتسب يأخذ على الأطباء عهدًا على غرار قسم أبقراط يلتزم فيه كل واحد منهم "أن تكون رغبته في معالجة المريض أقوى من رغبته في الحصول على أجر العلاج، وأن تكون رغبته في معالجة الفقير أقوى من رغبته في معالجة الغني"، كما يستحلفهم ألا يعطوا أحدًا دواءًا مضرًا، وألا يذكروا للنساء الدواء الذي يؤدي إلى الإجهاض، ولا للرجال الدواء الذي يقطع النسل، وأن يغضوا أبصارهم عن المحارم عند دخولهم على المرضى، وألا يفشوا الأسرار ويهتكوا الأستار.

اشتهر كثير من الأطباء العرب وذاع صيتهم في صدر الإسلام، منهم الحارث بن كلدة (ت نحو 13هـ، 634م) وهو من الطائف، وابنه النضر الذي قتله الرسول ³ سنة 2هـ، 624م، ورفيدة، وكعيبة، وأم عطية الأنصارية أيام الرسول ³، وابن أبي رمثة التميمي، والحكم الدمشقي، وابن أثال طبيب معاوية بن أبي سفيان، وبتاذون طبيب الحجاج بن يوسف. وقيل إن الحجاج طلب منه نصيحة طبية فقال له: "لا تتزوج من النساء إلا شابة ولا تأكل من اللحم إلا فتيًا، ولا تأكله حتى ينعم طبخه، ولا تشربن دواء إلا من علة، ولا تأكل عليه شيئًا، ولا تحبس الغائط والبول، وإذا أكلت في النهار فنم، وإذا أكلت في الليل فتمشَّ ولو مائة خطوة". كما اشتهرت في أواخر عهد بني أمية زينب طبيبة بني أوْد؛ وكانت عارفة بالأعمال الطبية، خبيرة بالعلاج ومداواة آلام العين والجراحات.

واشتهر من الأطباء غير المسلمين في أوائل عهد الدولة العباسية، جبرائيل بن بختيشوع وابن ربن الطبري ويوحنا بن ماسويه وإسحاق بن حنين، ومنكة وشاناق وكانا من الهند. ولم يختلف طب هؤلاء، من الناحية العملية، كثيرًا عما كان عليه في نهاية العصر الأموي. ولكن في أواخر عصر الترجمة؛ أي بعد منتصف القرن الرابع الهجري، ظهرت بشائر عهد التأليف. وكان كتاب علي بن سهل الطبري فردوس الحكمة طليعة عهد جديد زاهر في الطب العربي، وصل منتهاه في عصر الشيخ الرئيس ابن سينا. في هذا العهد نبغ أطباء انتقلوا بمهنة الطب نقلة نوعية، واشتهر من الأطباء المسلمين أبوبكر الرازي، وقد تتلمذ على الطبري وكان قد تولى رئاسة بيمارستان الريِّ ثم البيمارستان المقتدري في بغداد. وقد ألف في الطب نحو 56 كتابًا، ومن أعظم مؤلفاته كتاب الحاوي في الطب والمنصوري في التشريح؛ محنة الطبيب ومنافع الأغذية؛ رسالة في الجدري والحصبة، وهو أول من فرق بينهما وأشار إلى انتقالهما بالعدوى. وأول من استخدم فتيلة الجرح المسماة بالقصاب، وأمعاء الحيوانات لخياطة الجروح وأول من استخدم الرصاص الأبيض في المراهم وأدخل الزئبق في المسهِّل. ومن نصائحه المشهورة للأطباء، والمرضى: "مهما قدرت أن تعالج بالأغذية، فلا تعالج بالأدوية، ومهما قدرت أن تعالج بدواء مفرد فلا تعالج بدواء مركب" وكذلك "إذا كان الطبيب عالمًا والمريض مطيعًا فما أقل لبث العلة". "ينبغي للطبيب أن يوهم المريض بالصحة ويُرَجِّيه بها وإن كان غير واثق بذلك؛ فمزاج الجسم تابع لأخلاق النفس". ومن المعلوم أن الرازي توفي قبل أن يحرر الحاوي؛ فبقيت مسوداته عند أخته إلى أن أظهرها ابن العميد (ت 360هـ، 970م). وقد ترجم الحاوي إلى اللاتينية الطبيب اليهودي فرج بن سالم بطلب من كارل إنجو ملك نابولي وصقلية من 665هـ، 1266م إلى684هـ، 1285م. وأصبح من الكتب المعتمدة في دراسة الطب في أوروبا إبان القرون الوسطى. انظر: الرازي، أبو بكر محمد.

ومن أطباء تلك الحقبة (القرن الرابع الهجري) المشهورين إخوان الصفا. فقد جمعوا في رسائلهم كثيرًا من علوم عصرهم الطبية، وقد نصحوا بالاعتدال في الباءة (النكاح)، والطعام والشراب وتحدثوا عن أثر المناخ في الصحة. وقد برعوا في المعالجة بالتحليل النفسي؛ فنصحوا بأن يعطى المريض مجالاً لسرد أحواله وأسباب علته كما يشعر هو بها.

ومن الأطباء المشهورين أيضًا علي بن عباس المجوسي (ت 383هـ، 994م). وقد ألف الكتاب الملكي، أو كامل الصناعة الطبية وهو أكثر إيجازًا وتنسيقًا من كتاب الحاوي، وانتقد المجوسي فيه جهابذة الأطباء اليونانيين والعرب، وتحدث فيه عن الشرايين الشعرية وبعض الملاحظات السريرية وحركة الرحم. وترجم هذا الكتاب إلى اللاتينية مرتين عام 898هـ، 1492م بفينيسيا وعام 930هـ، 1523م بمدينة ليدن، والكتاب يحتوي على 20 مقالة تناولت الأولى والثانية منها فصولاً في علم التشريح؛ كانت المرجع الرئيسي لعلم التشريح في جامعة سالرنو بإيطاليا.

ومن أطباء تلك الفترة أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي (ت 427، 1035م)، وأشهر مؤلفاته كتابه المعروف بالزهراوي والتصريف لمن عجز عن التأليف. والزهراوي أول من نبغ في الجراحة بين العرب. وكتابه التصريف كان ذا أثر عظيم في النهضة الطبية في أوروبا مدى خمسة قرون، واحتل المكانة التي كانت لكتاب بولس الإيجنطي في الجراحة. ومن المسائل التي تناولها الكتاب إلى جانب الجراحة؛ وصف الكسور والخلع والشلل الناشئ من كسر السلسلة الفقرية، والأمراض الباطنية وتعليم القوابل، وإخراج الجنين الميت وجراحة العين، وأمراض النساء وصور الكثير من أدوات الجراحة وأكثرها من ابتكاره. وترجم الكتاب إلى العبرية واللاتينية عام 901هـ، 1495م واستراسبورج عام 939هـ، 1532م، وبال عام 948هـ، 1541م. انظر: الزهراوي، أبو القاسم.


كتاب القانون ترجم إلى اللاتينية 16 مرة خلال الثلاثين سنة الأخيرة من القرن 15م، و20 مرة خلال القرن 16م.
كان ابن سينا (ت 428هـ، 1037م) أعظم أطباء عصره، وأطلق عليه لقب الشيخ الرئيس، وقد نبغ إلى جانب الطب في الأدب والفلسفة والعلوم ولما يبلغ العشرين بعد. ومن أشهر آثاره في الطب كتاب القانون في الطب وهو موسوعة طبية ضافية، ويمثل القمة العلمية التي وصلت إليها الحضارة العربية الإسلامية في فنون الطب من حيث التجربة أو النقل. اشتهر هذا الكتاب في أوروبا إبان العصور الوسطى، وكان الكتاب المدرسي المقرر في الطب في جامعتي مونبلييه ولوفان في منتصف القرن السابع عشر الميلادي. ترجمه إلى اللاتينية جيرارد الكريموني، وطبعت ترجمته 16 مرة خلال الثلاثين سنة الأخيرة من القرن الخامس عشر الميلادي، و 20 مرة في القرن السادس عشر. وطبع بالعربية مرتين أولاهما في روما عام 1593م والثانية في بولاق بمصر سنة 1294هـ، 1877م. ورغم أن لابن سينا مذهبًا خاصًا في النظر إلى الأرواح والكواكب وتأثير العالم الأعلى في العالم الأسفل، ورغم سيطرة الفلسفة على تفكيره، إلا أن شيئًا من ذلك لم يتسرب إلى مذهبه في الطب؛ فقد اتخذ منهجًا تجريبيًا بحتًا في الطب والعلاج. انظر: ابن سينا .

أما ابن النفيس (ت 687هـ، 1288م) فهو أعظم الأطباء في الحقبة التي تلت عصر ابن سينا. وقام بدراسة آراء جالينوس وابن سينا دراسة واعية وأظهر آراء مخالفة لآرائهما في كتابه المسمى شرح قانون ابن سينا. فقد انتقد أقوالهما في وصف العروق الموصلة بين الرئة والقلب ووظائفها، ووظائف الرئتين، واعتمد التشريح المقارن أسلوبًا له في هذا العمل البحثي. ولم يتبقَّ من كتب ابن النفيس سوى الموجز في الطب وكتاب شرح قانون ابن سينا. وعند شرحه للقسم المتعلق بالتشريح في كتاب شرح قانون ابن سينا أولى عناية كبيرة بتشريح القلب، واتصال العروق به وبتشريح الحنجرة، لأنه كان يرى صلة بين التنفس والنبض وانتقال الدم من الرئة إلى القلب والعكس. ويعود له شرف اكتشاف الدورة الدموية الصغرى التي تصف مرور الدم من الشريان الرئوي إلى القلب. كما كان لابن النفيس اهتمام بطب العيون والعلاج بالغذاء والدواء والعلاج بالجراحة. انظر: ابن النفيس . ولمزيد من المعلومات عن أشهر الأطباء ومؤلفاتهم انظر: جدول أشهر الأطباء وأهم مؤلفاتهم في هذه المقالة.

والله اعلم.
الكلمات المفتاحية :
التعليقات تخص صاحبها ولا تخص ادارة الموقع
x